فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذينَ كَفَرُوا بغَيْظهمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا}.
أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم} قال: الأحزاب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله تعالى عنه في قوله: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم} قال: أبو سفيان وأصحابه {لم ينالوا خيرًا} قال: لم يصيبوا من محمد صلى الله عليه وسلم ظفرًا {وكفى الله المؤمنين القتال} انهزموا بالريح من غير قتال.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وكفى الله المؤمنين القتال} قال: بالجنود من عنده، والريح التي بعث عليهم {وكان الله قويًا} في أمره {عزيزًا} في نقمته.
وأخرج ابن سعد عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: لما كان يوم الأحزاب حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كل امرىء منهم الكرب، وحتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم أنك إن تشأ لا تعبد» فبينما هم على ذلك إذ جاءهم نعيم بن مسعود الأشجعي، وكان يأمنه الفريقان جميعًا، فخذل بين الناس، فانطلق الأحزاب منهزمين من غير قتال. فذلك قوله: {وكفى الله المؤمنين القتال}.
وأخرج ابن مردويه عن جابر رضي الله عنه قال: لما كان يوم الأحزاب ردهم الله {بغيظهم لم ينالوا خيرًا} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يحمي أعراض المسلمين؟» قال كعب رضي الله عنه: أنا يا رسول الله. قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: أنا يا رسول الله. فقال: إنك تحسن الشعر. فقال حسان: أنا يا رسول الله فقال: نعم. اهجهم أنت، فإنه سيعينك عليهم روح القدس.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ هذا الحرف {وكفى الله المؤمنين القتال} بعلي بن أبي طالب.
{وَأَنْزَلَ الَّذينَ ظَاهَرُوهُمْ منْ أَهْل الْكتَاب منْ صَيَاصيهمْ وَقَذَفَ في قُلُوبهمُ الرُّعْبَ فَريقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسرُونَ فَريقًا (26)}.
أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب} قال: قريظة {من صياصيهم} قال: قصورهم.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {من صياصيهم} قال: حصونهم.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب} قال هم بنو قريظة ظاهروا أبا سفيان، وراسلوه، ونكثوا العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش يغسل رأسه وقد غسلت شقه، إذ أتاه جبريل عليه السلام، فقال: عفا الله عنك. ما وضعت الملائكة عليهم السلام سلاحها منذ أربعين ليلة، فانهض إلى بني قريظة فإني قد قطعت أوتادهم، وفتحت أبوابهم، وتركتهم في زلزال وبلبال.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم، وناداهم: يا اخوة القردة فقالوا يا أبا القاسم ما كنت فحاشا! فنزلوا على حكم سعد بن معاذ وكان بينهم وبين قومه حلف، فرجوا أن تأخذه فيهم مودة، فأومأ إليهم أبو لبابة، فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول} [الأنفال: 27]. فحكم فيهم: أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فقال قومه وعشيرته: آثر المهاجرين بالأعقار علينا، فقال إنكم كنتم ذوي أعقار، وأن المهاجرين كانوا لا أعقار لهم. فذكر لنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر، وقال: مضى فيكم بحكم الله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وقذف في قلوبهم الرعب} قال: بصنيع جبريل عليه السلام {فريقًا تقتلون} قال: الذين ضربت أعناقهم وكانوا أربعمائة مقاتل، فقتلوا حتى أتوا على آخرهم {وتأسرون فريقًا} قال: الذين سبوا وكانوا فيها سبعمائة سبي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم} قال: قريظة، والنضير أهل الكتاب {وأرضًا لم تطئوها} قال: خيبر. فتحت بعد قريظة.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وأرضًا لم تطئوها} قال: كنا نحدث أنها مكة، وقال الحسن رضي الله عنه: هي أرض الروم وفارس، وما فتح عليهم.
وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {وأرضًا لم تطئوها} قال: يزعمون أنها خيبر، ولا أحسبها إلا كل أرض فتحها الله على المسلمين، أو هو فاتحها إلى يوم القيامة.
وأخرج ابن سعد عن سعيد بن جبير قال: كان يوم الخندق بالمدينة فجاء أبو سفيان بن حرب ومن تبعه من قريش، ومن تبعه من كنانة، وعيينة بن حصن ومن تبعه من غطفان، وطليحة ومن تبعه من بني أسد، وأبو الأعور ومن تبعه من بني سليم وقريظة، كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا ذلك، وظاهروا المشركين، فأنزل الله فيهم {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم} فأتى جبريل عليه السلام ومعه الريح، فقال حين سرى جبريل عليه السلام: ألا أبشروا ثلاثًا.
فأرسل الله عليهم، فهتكت القباب، وكفأت القدور، ودفنت الرجال، وقطعت الأوتاد، فانطلقوا لا يلوي أحد على أحد، فأنزل الله: {إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها}.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت يوم الخندق أقفو الناس فإذا أنا بسعد بن معاذ ورماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم، فأصاب أكحله، فقطعه، فدعا الله سعد، فقال: اللهم لا تمتني حتى تقرعيني من قريظة، وبعث الله الريح على المشركين {وكفى الله المؤمنين القتال} ولحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأمر بقبة من أدم، فضربت على سعد رضي الله عنه في المسجد قالت: فجاء جبريل عليه السلام- وإن على ثناياه نقع الغبار- فقال: أو قد وضعت السلاح؟ لا والله ما وضعت الملائكة السلاح بعد، أخرج إلى بني قريظة فقاتلهم، فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لامته، وأذن في الناس بالرحيل: أن يخرجوا، فأتاهم فحاصرهم خمسًا وعشرين ليلة، فلما اشتد حصرهم، واشتد البلاء عليهم فقيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ، فأتي به على حمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احكم فيهم فقال: إني أحكم فيهم؛ أن تقتل مقاتليهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم، قال: «فلقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله».
وأخرج البيهقي عن موسى بن عقبة رضي الله عنه قال: أنزل الله في قصة الخندق، وبني قريظة تسعًا وعشرين آية فاتحتها {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود} والله تعالى أعلم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذينَ كَفَرُوا بغَيْظهمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا}.
لم يُشمت بالمسلمين عَدُوًّا، ولم يُوصّلْ إليهم مَنْ كيدهم سواءًا، ووضع كيدهم في نحورهم، واجتثَّهم من أصولهم، وبيّن بذلك جواهر صدْقهم وغير صدقهم، وشكَر مَنْ استوجب شكره منْ جملتهم، وفضحَ مَنْ استحقّ الذمّ من المدلسّين منهم.
{وَأَنْزَلَ الَّذينَ ظَاهَرُوهُمْ منْ أَهْل الْكتَاب منْ صَيَاصيهمْ وَقَذَفَ في قُلُوبهمُ الرُّعْبَ}.
إنّ الحقَّ- سبحانه- إذا أجمل أكمل، وإذا شفى كفى، وإذا وفى أوفى. فأظفر المسلمين عليهم، وأورثهم معاقلَهم، وأذلّ مُتعزّزَهم، وكفاهم بكلّ وجهٍ أمرهم، ومكَّنهم من قَتْلهم وأسرهم ونهْب أَموالهم، وسَبى ذراريهم. اهـ.

.تفسير الآيات (28- 30):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأَزْوَاجكَ إنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحًا جَميلًا (28) وَإنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أَعَدَّ للْمُحْسنَات منْكُنَّ أَجْرًا عَظيمًا (29) يَا نسَاءَ النَّبيّ مَنْ يَأْت منْكُنَّ بفَاحشَةٍ مُبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضعْفَيْن وَكَانَ ذَلكَ عَلَى اللَّه يَسيرًا (30)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تقرر بهذه الوقائع- التي نصر فيها سبحانه وحده بأسباب باطنه سببها، وأمور خفية رتبها، تعجز عنها الجيوش المتخيرة المستكثرة، والملوك المتجبرة المستكبرة- ما قدم من أنه كافي من توكل عليه، وأقبل بكليته إليه، وختم بصفة القدرة العامة الدائمة، تحرر أنه قادر على كل ما يريده، وأنه لو شاء أجرى مع وليه كنوز الأرض، وأنه لا يجوز لأحد أن يراعي غيره ولا أن يرمق بوجه ما سواه، وعلم أن من أقبل إلى هذا الدين فإنما نفع نفسه والفضل لصاحب الدين عليه، ومن أعرض عنه فإنما وبال إعراضه على نفسه، ولا ضرر على الدين بإعراض هذا المعرض، كما أنه لا نفع له بإقبال ذلك المقبل، وكان قد قضى سبحانه أن من انقطع إليه حماه من الدنيا إكرامًا له ورفعًا لمنزلته عن خسيسها إلى نفيس ما عنده، لأن كل أمرها إلى زوال وتلاش واضمحلال، ولا يعلق همته بذلك إلا قاصر ضال، فأخذ سبحانه يأمر أحب الخلق إليه، وأعزهم منزلة لديه، المعلوم امتثالًا للأمر بالتوكل والإعراض عن كل ما سواه سبحانه وأنه لا يختار من الدنيا غير الكفاف، والقناعة والعفاف، بتخيير ألصق الناس به تأديبًا لكافة الناس، فقال على طريق الاستنتاج مما تقدم: {يا أيها النبي} ذاكرًا صفة رفعته واتصاله به سبحانه والإعلام بأسرار القلوب، وخفايا الغيوب، المقتضية لأن يفرغ فكره لما يتلقاه من المعارف، ولا يعلق عن شيء من ذلك بشيء من أذى: {قل لأزواجك} أي نسائك: {إن كنتن} أي كونًا راسخًا {تردن} أي اختيارًا عليّ {الحياة} ووصفها بما يزهد فيها ذوي الهمم ويذكر من له عقل بالآخرة فقال: {الدنيا} أي ما فيها من السعة والرفاهية والنعمة {وزينتها} أي المنافية لما أمرني به ربي من الإعراض عنه واحتقاره من أمرها لأنها أبغض خلقه إليه، لأنها قاطعة عنه {فتعالين} أصله أن الأمر يكون أعلى من المأمور، فيدعوه أن يرفع نفسه إليه ثم كثر حتى صار معناه: أقبل، وهو هنا كناية عن الإخبار والإراداة بعلاقة أن المخبر يدنو إلى من يخبره {أمتعكن} أي بما أحسن به إليكن {وأسرحكن} أي من حباله عصمتي {سراحًا جميلًا} أي ليس فيه مضارة، ولا نوع حقد ولا مقاهرة {وإن كنتن} بما لكن من الجبلة {تردن الله} أي الآمر بالإعراض عن الدنيا للإعلاء إلى ما له من رتب الكمال {ورسوله} المؤتمر بما أمره به من الانسلاخ عنها المبلغ للعباد جميع ما أرسله به من أمر الدنيا والدين لا يدع منه شيئًا، لما له عليكن وعلى سائر الناس من الحق بما يبلغهم عن الله {والدار الآخرة} التي هي الحيوان بما لها من البقاء، والعلو والارتقاء.
ولما كان ما كل من أظهر شيئًا كان عالي الرتبة فيه، قال مؤكدًا تنبيهًا على أن ما يقوله مما يقطع به وينبغي تأكيده دفعًا لظن من يغلب عليه حال البشر فيظن فيه الظنون من أهل النفاق وغيرهم، أو يعمل عمل من يظن ذلك أو يستبعد وقوعه في الدنيا أو الآخرة: {فإن الله} أي بما له من جميع صفات الكمال {أعد} في الدنيا والآخرة {للمحسنات منكن} أي اللاتي يفعلن ذلك وهن في مقام المشاهدة وهو يعلم المحسن من غيره {أجرًا عظيمًا} أي تحتقر له الدنيا وكل ما فيها من زينة ونعمة.
ولما أتى سبحانه بهذه العبارة الحكيمة الصالحة مع البيان للتبعيض ترهيبًا في ترغيب، أحسن كلهن وحققن بما تخلقن به أن من للبيان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليهن رضي الله عنه ن ذلك، وبدأ بعائشة رضي الله عنها رأس المحسنات إذ ذاك رضي الله عنها وعن أبيها وقال لها: «إني قائل لك أمرًا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أوبويك» فلما تلاها عليها قالت منكرة لتوقفها في الخبر: أفي هذا أستأمر أبوي، فإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ثم عرض ذلك على جميع أزواجه فاقتدين كلهن بعائشة رضي الله عنه ن فكانت لهن إمامًا فنالت إلى أجرها مثل أجورهن- روى ذلك البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنه ا، وسبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم وجد على نسائه رضي الله عنه ن فآلى منهن شهرًا، فلما انقضى الشهر نزل إليهن من غرفة كان اعتزل فيها وقد أنزل الله عليه الآيات.
فخيرهن فاخترنه رضي الله عنه ن، وسبب ذلك أن منهن من سأل التوسع في النفقة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحب التوسع في الدنيا، روى الشيخان رضي الله عنهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم، من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى الحديث البيهقي ولفظه: قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية ولو شئنا لشبعنا، ولكنه كان يؤثر على نفسه، وروى الطبراني في الأوسط عنها أيضًا رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل عني أو سره أن ينظر إلي فلينظر إليّ أشعث شاحب لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، رفع له علم فشمر إليه، اليوم المضمار وغدًا السباق، والغاية الجنة أو النار».
ولما كان الله سبحانه قد أمضى حكمته في هذه الدار في أنه لا يقبل قول إلا ببيان، قال سبحانه متهددًا على ما قد أعاذهن الله منه، فالمراد منه بيان أنه رفع مقاديرهن، ولذلك ذكر الأفعال المسندة إليهن اعتبارًا بلفظ من والتنبيه على غلط من جعل صحبه الأشراف دافعة للعقاب على الإسراف، ومعلمة بأنها إنما تكون سببًا للإضعاف: {يا نساء النبي} أي المختارات له لما بينه وبين الله مما يظهر شرفه {من يأت} قراءة يعقوب على ما نقله البغوي بالمثناة الفوقانية على معنى من دون لفظها وهي قراءة شاذة نقلها الأهوازي في كتاب الشواذ عن ابن مسلم عنه: وقرأ الجماعة بالتحتانية على اللفظ وكذا {يقنت} {منكن بفاحشة} أي من قول أو فعل كالنشوز وسوء الخلق باختيار الحياة الدنيا وزينتها على الله ورسوله أو غير ذلك {مبينة} أي واضحة ظاهرة في نفسها تكاد تنادي بذلك من سوء خلق ونشوز أو غير ذلك {يضاعف لها العذاب} أي بسبب ذلك، ولما هول الأمر بالمفاعلة في قراءة نافع المفهمة لأكثر من اثنين كما مضى في البقرة، سهله بقوله: {ضعفين} أي بالنسبة إلى ما لغيرها لأن مقدارها لا يعشره مقدار غيرها كما جعل حد الحر ضعفي ما للعبد، وكما جعل أجرهن مرتين.
واشتد العتاب فيما بين الأحباب، وعلى قدر علو المقام يكون الملام، وبقدر النعمة تكون النقمة، وكل من بناء يضاعف للمجهول من باب المفاعلة أو التفعيل لأبي جعفر والبصريين أو للفاعل بالنون عند ابن وكثير وابن عامر يدل على عظمته سبحانه، والبناء للمجهول يدل على العناية بالتهويل بالعذاب بجعله عمدة الكلام وصاحب الجملة بإسناد الفعل إليه، وذلك كله إشارة إلى أن الأمور الكبار صغيرة عنده سبحانه لأنه لا يضره شيء ولا ينفعه، ولا يوجب شيء من الأشياء له حدوث شيء لم يكن، ولذلك قال: {وكان ذلك} أي مع كونه عظيمًا عندكم {على الله يسيرًا} فهذا ناظر إلى مقام الجلال والكبرياء والعظمة. اهـ.